
فِي البَصْرَةِ، مُنْذُ مِئَاتِ السِّنِينَ، وُلِدَ طِفْلٌ اسْمُهُ الحَسَنُ.
كَانَ طِفْلًا غَرِيبًا فِي نَظَرِ النَّاسِ، إِذْ لَمْ يَكْتَفِ بِاللَّعِبِ أَوِ الرَّكْضِ فِي الأَزِقَّةِ، بَلْ كَانَ يَمْلَأُ يَوْمَهُ بِالدَّهْشَةِ.. يَنْظُرُ إِلَى النَّهْرِ فَيَسْأَلُ: لِمَاذَا يَعْكِسُ صُورَتِي؟
يَرْفَعُ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ فَيَتَسَاءَلُ: مِنْ أَيْنَ يَجِيءُ ضَوْءُ القَمَرِ؟
يُلَاحِقُ شُعَاعَ الشَّمْسِ وَهُوَ يَتَسَلَّلُ مِنْ نَافِذَةِ البَيْتِ وَيَقُولُ: مَا سِرُّ هَذَا النُّورِ العَجِيبِ؟
كَانَتْ أُمُّهُ تَبْتَسِمُ وَتَقُولُ: أَسْئِلَتُكَ لَا تَنْتَهِي يَا حَسَنُ. فَيَرُدُّ عَلَيْهَا بِصَوْتٍ وَاثِقٍ: سَأَجِدُ لَهَا جَوَابًا يَوْمًا مَا.
وهَكَذَا مَرَّتِ الأَعْوَامُ، وَكَبِرَ الحَسَنُ، لَكِنَّ قَلْبَهُ ظَلَّ مُمتَلِئًا بِالأَسْئِلَةِ.
وَفِي لَيْلَةٍ هَادِئَةٍ جَلَسَ فِي غُرْفَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَأَحْدَثَ ثُقْبًا صَغِيرًا فِي النَّافِذَةِ، فَإِذَا بِالضَّوْءِ يَتَسَلَّلُ مِنْهَا وَيَرْسُمُ صُورَةَ الشَّجَرَةِ فِي الخَارِجِ عَلَى الجِدَارِ.. أَشْرَقَ وَجْهُهُ دَهْشَةً وَقَالَ: النُّورُ يُسَافِرُ فِي خَطٍّ مُسْتَقِيمٍ! إِنَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي كُنْتُ أَبْحَثُ عَنْهُ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ صَارَ الحَسَنُ صَدِيقًا لِلنُّورِ، كَانَ يَمْلَأُ صُنْدُوقَهُ بِالمَرَايَا وَالزُّجَاجِ وَالمَاءِ، يُجَرِّبُ وَيُعِيدُ، يَكْتُبُ وَيَرْسُمُ، حَتَّى صَارَ بَيْتُهُ أَشْبَهَ بِمُخْتَبَرٍ مَلِيءٍ بِالأَسْرَارِ.
دَرَسَ العَيْنَ بِدِقَّةٍ، وَشَرَحَ لِلنَّاسِ كَيْفَ يَدْخُلُ النُّورُ إِلَيْهَا، وَصَحَّحَ مَا أَخْطَأَ فِيهِ القُدَمَاءُ، فَالعَيْنُ لَا تُرْسِلُ أَشِعَّةً إِلَى الخَارِجِ، بَلْ تَسْتَقْبِلُ الضَّوْءَ القَادِمَ مِنَ الأَشْيَاءِ.
ثُمَّ أَلَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ المَنَاظِرَ، حَمَلَ فِيهِ خُلَاصَةَ تَجَارِبِهِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى كَنْزٍ لِلْعُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ، فِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ.
وَلَمْ يَكُنِ النُّورُ وَحْدَهُ مَا شَغَلَ قَلْبَهُ.. فحينَ جَاءَ إِلَى مِصْرَ وَرَأَى فَيَضَانَ النِّيلِ يُهَدِّدُ البُيُوتَ وَالحُقُولَ، خَطَرَتْ لَهُ فِكْرَةٌ عَظِيمَةٌ: بِنَاءُ سَدٍّ يَقِي النَّاسَ شَرَّ الغَرَقِ!!
وَلَكِنَّهُ حِينَ دَرَسَ الأَمْرَ عَلِمَ أَنَّ زَمَانَهُ لَا يَمْلِكُ الأَدَوَاتِ الكَافِيَةَ، فَتَرَكَ المَشْرُوعَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الحُلْمَ.. وبعدها عَادَ إِلَى عُزْلَتِهِ، وَوَاصَلَ الكِتَابَةَ وَالتَّجْرِبَةَ، حَتَّى تَرَكَ لِلْعَالَمِ كُتُبًا وَمُؤَلَّفَاتٍ لَا تُحْصَى.
وَهَكَذَا عَاشَ الحَسَنُ بْنُ الهَيْثَمِ عُمْرَهُ كُلَّهُ يَسْعَى خَلْفَ النُّورِ، يَقْتَفِي أَثَرَهُ فِي السَّمَاءِ وَالمَاءِ وَالعُيُونِ وَالظِّلَالِ، حَتَّى صَارَ اسْمُهُ وَاحِدًا مِنْ أَعْظَمِ الأَسْمَاءِ فِي تَارِيخِ العِلْمِ.
لَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ كُلَّ سُؤَالٍ بَذْرَةٌ، وَأَنَّ كُلَّ تَجْرِبَةٍ ضَوْءٌ، وَأَنَّ مَنْ يَتَّبِعِ النُّورَ لَا يَضِيعُ.