
فِي مَمْلَكَةٍ بَعِيدَةٍ يَغْمُرُهَا الضِّيَاءُ، عَاشَتْ أَمِيرَةٌ تُدْعَى ميار.
لَمْ تَكُن الأَمِيرَة مَيار تُحِبُّ الجُلُوسَ طَوِيلًا فِي القَصْرِ، بَلْ كَانَتْ تَخْرُجُ كُلَّ يَوْمٍ لِتَسْتَكْشِفَ الغَابَةَ وَتَسْمَعَ حِكَايَاتِ الطُّيُورِ وَهَمَسَاتِ الأَشْجَارِ.
ذَاتَ صَبَاحٍ، وَجَدَتْ أَرْنَبًا أَبْيَضَ صَغِيرًا عَالِقًا بَيْنَ الأَغْصَانِ، وَكَانَت أذناه تلمعان كَأَنَّهُما قِطْعَةٌ مِنَ القَمَرِ.. حَرَّرَتْهُ بِرِفْقٍ، وَحَمَلَتْهُ مَعَهَا إِلَى القَصْرِ، وَاعْتَنَتْ بِجُرْحِهِ حَتَّى شُفِيَ.. وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ، صَارَ الأَرْنَبُ صَدِيقَهَا المُخْلِصَ، كما سَمَّتْهُ “نُورًا”، لِأَنَّهُ كَانَ يُضِيءُ لَهَا الدَّرْبَ عِنْدَمَا يَشْتَدُّ الظَّلَامُ.
وَفي إحْدَى اللَيالي غَطَّى السَّوَادُ المَمْلَكَةَ كُلَّهَا، فارْتَجَفَ النَّاسُ مِنَ الخَوْفِ.. قَالَ الحُكَمَاءُ إِنَّ “حَارِسَةَ الغَابَةِ المُظْلِمَةِ” قَدِ اسْتَيْقَظَتْ مِنْ سُبَاتِهَا، وَأَطْلَقَتْ سِحْرَهَا الأَسْوَدَ.
قَرَّرَتِ الأَمِيرَةُ أَنْ تُوَاجِهَ هَذَا الظَّلَامَ، فَأَمْسَكَتْ بِيَدِ نُورٍ وَقَالَتْ: “لَنْ أَدَعَ مَمْلَكَتِي تَغْرَقُ فِي الخَوْفِ، سَنُوَاجِهُهَا مَعًا".. ثم انطلقا معا نحو دهاليز الغابة.
وفِي رِحْلَتِهِمَا وَاجَهَا تَحَدِّيَاتٍ خَطِيرَةً، إذ كَانَ هُنَاكَ نَهْرٌ هَائِجٌ حَاوَلَ ابْتِلَاعَهُمَا، وَلَكِنَّ نُورًا قَفَزَ فَوْقَ الحِجَارَةِ وَكَشَفَ لِمِيَارَ الطَّرِيقَ.
واعترضت طريقهما أَشْجَارٌ عِمْلَاقَةٌ، فَدَفَعَتْهَا ميار بِكُلِّ قُوَّتِهَا حَتَّى انْفَتَحَتْ مَمَرَّاتٌ ضَيِّقَةٌ.. ثُمَّ ظَهَرَتْ ذِئَابٌ جَائِعَةٌ أَرَادَتْ مُهَاجَمَتَهُمَا، وَلَكِنَّ الأَرْنَبَ خَدَعَهَا بِقَفَزَاتِهِ السَّرِيعَةِ حَتَّى ابْتَعَدَتْ.
وبينما هما يسيران عثرا فِي كَهْفٍ مُظْلِمٍ امْتَلَأَ بِالخَفَافِيشِ التي راحت تهاجمهما.. هنا، أَضَاءَ نُورٌ أُذُنَيْهِ فَهَدَأَتِ المَخْلُوقَاتُ وَفَتَحَتْ لَهُمَا الطَّرِيقَ.
وَأَخِيرًا وَصَلَا إِلَى قَصْرِ الحَارِسَةِ، فَكَانَتْ عَيْنَاهَا تَلْمَعَانِ كَالجَمْرِ، وَصَوْتُهَا يَهْدُرُ كَالعَاصِفَةِ، وَقَالَتْ: “أَيُّهَا البَشَرُ، أَنْتُمْ ضُعَفَاءُ، لَا مَكَانَ لِلضِّيَاءِ هُنَا.. هيا إرحلوا ولا تعودوا أبدا".
رَفَعَتِ الأَمِيرَةُ رَأْسَهَا وَقَالَتْ بِثَبَاتٍ: “لَنْ تَنْتَصِرَ الظُّلْمَةُ مَا دَامَ فِي قُلُوبِنَا نُورٌ”.
ابْتَسَمَتِ الحَارِسَةُ بِسُخْرِيَّةٍ، ثُمَّ أَطْلَقَتْ رِيَاحًا سَوْدَاءَ وَأَشْبَاحًا مُظْلِمَةً لِتُخِيفَهُمَا، فَارْتَجَفَتِ الأَشْجَارُ وَارْتَفَعَ صُرَاخُ الغَابَةِ. وَلَكِنَّ مِيَارَ تَمَسَّكَتْ بِصَدِيقِهَا وَقَالَتْ: “لَنْ نُهْزَمَ لِأَنَّنَا مَعًا.”
عِنْدَهَا أَطْلَقَ الأَرْنَبُ نُورًا قَوِيًّا اخْتَرَقَ العَاصِفَةَ، وَأَمْسَكَتْ مِيَارُ بِيَدِ الحَارِسَةِ وَقَالَتْ: “انْظُرِي، هَذَا النُّورُ لَيْسَ سِحْرًا، إِنَّهُ صَدَاقَةٌ وَوَفَاءٌ، تَعَالَيْ مَعَنَا، ولَنْ تَبْقَيْ وَحِيدَةً بَعْدَ اليَوْمِ".
تَجَمَّدَتِ الحَارِسَةُ وَانْهَمَرَتْ دُمُوعُهَا، وَخَفَتَتِ الرِّيَاحُ وَتَلَاشَتِ الأَشْبَاحُ.
وَبِبُطْءٍ اخْتَفَى السَّوَادُ مِنَ المَمْلَكَةِ، وَعَادَ الضِّيَاءُ إِلَى القُلُوبِ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى السَّمَاءِ.
وَمُنْذُ ذَلِكَ اليَوْمِ عَاشَ الجَمِيعُ بِسَلَامٍ، فَصَارَتِ الحَارِسَةُ صَدِيقَةً لِلْغَابَةِ وللبشر، وَصَارَ الأَرْنَبُ نُورٌ رَمْزًا لِلأَمَلِ، وَتَعَلَّمَ أَهْلُ المَمْلَكَةِ أَنَّ الشَّجَاعَةَ وَالرَّحْمَةَ مَعًا تَصْنَعَانِ أَقْوَى سِحْرٍ.